فصل: فصل في حكم المديان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.فصل في حكم المديان:

الصيغة للمبالغة، والمراد المدين. وقسمه الناظم إلى أقسام: أولها الغني الموسر بالدين وهو معنى قوله:
وَمَن عليه الدَّيْنُ إما مُوسِرُ ** فَمَطْلِ ظُلْمٌ ولا يُؤَخَّرُ

(ومن عليه الدين إما موسر) في ظاهر الحال يتهم بمال أخفاه كما لابن سهل وهو يلبس الثياب الفاخرة وله خدم ولا يعلم بأصول ولا عروض (فمطله ظلم) لقوله عليه السلام: (مطل الغني ظلم) (ولا يؤخر) إن لم يعد بالقضاء ولم يسأل التأجيل لثبوت عسره بل يسجن حتى يؤدي فإن وعد بالقضاء وسأل التأجيل كاليومين والثلاثة أعطى حميلاً بالمال لأنه لما وعد بالقضاء ظهرت قدرته على المال فلم يقبل منه إلا حميل به وإلاَّ سجن، وإن سأل التأجيل لثبوت عسره فإنه يؤجل بحميل بوجهه عند ابن القاسم وهو الراجح. وقال سحنون: بالمال ووفق بينهما بأن قول سحنون في الملد وقول ابن القاسم في غيره، وقوله فيما يأتي والحبس للملد والمتهم إلخ. هو في ظاهر الملاء أيضاً فالأولى حذفه والاستغناء عنه بما هنا.
تنبيه:
إذا سجن ظاهر الملاء وطلب الخروج من السجن لطلب ما ينفعه بحميل بوجهه ثم يعود إليه إن عجز عن إثبات ما ينفعه، فإنه يمكن من ذلك قاله عياض وثاني الأقسام قوله:
أوْ مُعْسِرٌ قَضاؤُهُ إضْرارُ ** فَينْبَغِي في شَأْنِهِ الإنْظَارُ

(أو معسر) لا يعرف بناض ولكن له عروض وأصول يحتاج في بيعها إلى فسحة وتوسعة فإنه يؤخر بالاجتهاد على قدر كثرة المال وقلته إذ (قضاؤه) أي القاضي ببيعها عليه عاجلاً من غير تأخير فيه (إضرار) به (فينبغي) أي يجب (في شأنه الإنظار) والتأخير بقدر قلة المال وكثرته كما يأتي في قوله: وسلعة المديان رهناً تجعل إلخ. إذ هو من تتمة ما هنا وظاهره أنه يؤخر بدون حميل لأن الرهن كالحميل كما يأتي عن ناظم عمل فاس إذ حيث جعلت السلعة رهناً للأجل المضروب فلا سبيل لربها إلى تفويتها، وإن فعل لم يمض تفويته إياها إلا بعد أداء ما عليه، وسيأتي ما في ذلك ثم هذا القسم داخل في معلوم الملاء (خ): وأجل لبيع عرضه إن أعطى حميلاً بالمال.
تنبيه:
فإن ادعى رب الدين أن له مالاً ناضاً وطلب تحليفه فيجري ذلك على الاختلاف في يمين التهمة والمعمول به توجيهها كما مّر في باب اليمين، ومقابله لأبي عمر الأشبيلي أنه لا يمين عليه محتجاً بقول مالك: جل الناس ليس لهم ناض أي: والحمل على هذا الغالب واجب وإلى هذا الخلاف أشار (خ) بقوله: ففي حلفه على عدم الناض تردد ومحله إذا لم يحقق الدعوى عليه وإلاَّ توجهت اتفاقاً، فإن نكل حلف الطالب وأجبر المطلوب على الأداء ولا يؤخر قليلاً ولا كثيراً كما في ابن سلمون، وثالث الأقسام قوله:
أوْ مُعْدِمٌ وَقَدْ أَبَانَ مَعْذِرَه ** فواجِبٌ إنظارُهُ لميْسِرَه

(أو معدم و) الحال أنه (قد أبان) أي أثبت (معذرة) بأن شهدت بينة لا مطعن فيها بعدمه وحلف معها وأخرجها أول جلوسه عند الحاكم (فواجب إنظاره لميسرة) لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} الآية (البقرة: 280) ومفهوم قوله: وقد أبان معذرة إلخ. إنه إذا لم يثبت عدمه أول جلوسه عند الحاكم فإنه حينئذ إما ظاهر الملاء، وقد تقدم أو مجهول الحال ويحبس لثبوت عسره إن لم يأت بحميل بوجهه كما يأتي في قوله: وحيثما يجهل حال من طلب إلخ:
تنبيه:
ظاهره أنه لا يلزم بالتكسب وهو كذلك ما لم يداينه الناس ليقضيهم من صنعته فقد قال اللخمي: إن المفلس الصانع يداين ليعمل ويقضي من عمله، ثم عطل أجبر على العمل فإن لد استؤجر في صنعته تلك. قال ابن عرفة: فيلزم مثله في الزوج في النفقة إذا ترك صنعته، وأما نفقة الأولاد فلا خلاف أنه لا يجبر على الصنعة قاله البرزلي في النكاح. ورابع الأقسام قوله:
ومَنْ عَلَى الأَمْوَالِ قد تَقَعَّدَا ** فالضَّرْبُ والسِّجْنُ عليه سَرْمَدَا

(ومن) كان معلوم الملاء و(على الأموال قد تقعدا) ويشمل المعسر الذي له عروض المتقدم في القسم الثاني كما مر. قال في التوضيح: ومثلوا معلوم الملاء بمن أخذ أموال الناس ويقعد للتجارة، ثم يدعي ذهابها ولم يثبت ما يصدقه من احتراق منزله أو سرقته أو نحوهما، (فالضرب والسجن عليه سرمدا) عياض: ولا يؤخذ منه حميل لأنه ملد ظالم إلا أن يلتزم الحميل دفع المال في الحال إن عرف أنه من أهل الناض. ابن عبد السلام: وليس للإمام أن يبيع عروضه كما يبيعها على المفلس لأن المفلس قد ضرب على يده ومنع من ماله.
ولا الْتِفَاتَ عِنْدَ ذَا لبيِّنه ** لما ادَّعَى مِن عَدَمِ مُبيِّنه

(ولا التفات عند ذا) أي عند تقعده على أموال الناس وادعائه العدم (لبينة لما ادعى من عدم مبينة) صفة لقوله لبينة، ولما ادعى متعلق به أي: لا يلتفت للبينة الشاهدة بعدمه دون أن يشهدوا أنه احترق منزله، أو أنه ذهب ما بيده بسرقة أو غصب أو نزول الأسواق به ونحو ذلك كما للخمي ونصه: وإن شهدت بينة بالفقر سئلت كيف علمت ذلك فإن كان من قول الغريم وشكواه ذهب ما في يدي وخسرت وما أشبه ذلك لم تكن شهادة، وإن قالوا: كنا نرى تصرفه في بيعه وشرائه وقدر أرباحه ونزول الأسواق عليه ونفقته على عياله ونقص رأس ماله شيئاً بعد شيء كانت شهادة تامة. اهـ. ونحوه للمازني، ودرج عليه في الشامل فقال: ولا تقبل بينة من علم ملاؤه إلا بذهاب ماله بأن تقول: كنا نرى بيعه وشراءه ونفقته ونقص ماله. اهـ.
وإنْ أَي بِضَامِنِ فبالأَدَا ** حتى يُؤَدِّي ما عليه قَعَدَا

(وإن أتى) معلوم الملاء (بضامن ف) إنه يقبل منه الضامن (بالأدا) ء كما مّر عن عياض (حتى يؤدي ما عليه قعدا)، وظاهره: أن معلوم الملاء إذا أراد أن يؤدي بعض الحق وأبى ربه من قبوله إلا بأداء الجميع فإن القول لربه وهو كذلك على المعتمد (خ): وإن علم بالناض لم يؤخر وضرب مرة بعد مرة إلخ. والظاهر أن ظاهر الملاء إذا سجن وتخلد في السجن يجري فيه قوله فالضرب إلخ. وكذا المعسر الذي له أصول وأجل لبيعها فلم يفعل بعد السجن فإنه يضرب أيضاً إذ كل من لم يفد فيه السجن يضيق عليه بالضرب.
تنبيه:
بمنزلة معلوم الملاء من أقر بالملاء ثم ادعى العدم ففي ابن فتوح كتب الموثقين أن المدين مليء بالحق الذي ثبت عليه حسن فإن ادعى العدم لم يصدق وإن قامت له به بينة لأنه قد كذبها إلا أن تشهد بينة بعطب حل به بعد إقراره، وفي وثائق الفشتالي والمعيار: أن عدم قبول البينة بالعدم ممن اعترف بالملاء هو المشهور المعمول به، ويسجن أبداً حتى يؤدي دينه أو تبيض عيناه ما لم تقم بينة بطروء آفة أذهبت ماله بنهب أو سرقة أو احتراق. اهـ. وانظر ما قدمناه في التنبيه السابع عند قوله: والخلع سائغ إلخ. وخامس الأقسام قوله:
وَحَيْثُما يُجْهَلُ حَالُ مَنْ طُلِبْ ** وَقصَدَ اخْتبارُهُ بما يَجِبْ

(وحيثما يجهل حال من طلب) بدين هل هو مليء أو معدم فإنه يسجن إلى ثبوت فقره ما لم يأت بحميل بوجهه فإن أتى به لم يسجن وأخر لإثبات عسره فإن أنقضى الأجل ولم يثبته أو لم يأت بحميل أول الأمر فلابد من اختباره بالسجن والتضييق عليه كما قال: (وقصد اختباره بما يجب) من السجن المذكور، ولعل له مالاً أخفاه ولكن حبسه يختلف بقلة المال وكثرته كما قال:
فَحَبْسُهُ مِقْدَارَ نِصْفِ شَهْرِ ** إنْ يَكُنْ الدَّيْنُ يَسِير القَدْرِ

(فحسبه مقدار نصف شهر إن يكن الدين يسير القدر) كالدريهمات كما في المقدمات.
والحَبْسُ في تَوَسُّطِ شَهْرَان ** وضعفُ ذين في الخَطِير الشّانِ

(والحَبْسُ في توسط) أي في المال المتوسط بين القلة والكثرة (شهران وضعف دين) وهو أربعة أشهر فيحبس (في) المال (الخطير الشان) ووجه ذلك أنه يحبس لاختبار حاله، فوجب أن يكون على قدر الحق الذي عليه ولم يذكروا للخطير حداً، ولعله يختلف باختلاف الناس قاله (ت) فإذا انقضى نصف الشهر أو الشهران في المتوسط أو الأربعة في الكثير سرح من السجن وخلي سبيله (خ): وأخرج المجهول إن طال حبسه بقدر الدين والشخص.
وَحَيْثُ جاءَ قبلُ بالْحميلِ ** بِالْوَجْهِ مَا لِلسِّجْنِ منْ سَبِيلِ

(وحيث جاء) المجهول ومثله ظاهر الملاء (قبل) أي قبل حبسه (بالحميل بالوجه) وطلب التأجيل ليثبت عدمه ف (ما للسجن من سبيل) بل يؤجل، فإذا انقضى الأجل ولم يثبت ما ادعاه حبس حينئذ للاختبار كما أشرنا إليه أول التقرير (خ): وحبس لثبوت عسره إن جهل حاله ولم يسئل الصبر له بحميل بوجهه إلخ. وإنما يحبس في مجرد الدعوى بعد حلف المدعي أن ما ادعاه حق كما مر. عند قوله:
وضامن الوجه على من انكرا ** دعوى امرئ خشية ان لا يحضرا

إلخ.
وَسِلعةُ المِدْيان رهناً تُجْعَلُ ** وَبَيْعُهَا عليه لا يُعَجَّلُ

(وسلعة المديان) يريد رب الدين تعجيل بيعها عليه وطلب ربها أن لا تفوت عليه وتوضع رهناً ويؤجل أياماً فينظر في الدين فإن ربها يجاب إلى ذلك، و(رهناً تجعل وبيعها عليه لا يعجل) لما في التعجيل من الضرر به.
وَحَقُّهُ مَعْ ذَاكَ أنْ يُؤَخَّرَا ** بِحَسَب المالِ لِما القاضِي يَرَا

(وحقه مع ذاك) أي مع جعلها رهناً (أن يؤخرا) أجلاً (بحسب المال) قلة أو كثرة (لما القاضي يرى) باجتهاده. هذا الذي جرى به الحكم ومضى به العمل، وتدل عليه الروايات عن مالك وأصحابه قاله ابن رشد. وتقدم أن هذه المسألة من تتمة القسم الثاني، بل لو استغنى به عنها لكفاه لأنه إذا كان يؤجل من غير رضاه بجعلها رهناً فأحرى مع رضاه بذلك.
تنبيه:
في نوازل البرزلي ما نصه: كتب إلى شيوخ قرطبة فيمن عليه دين وله أصول مأمونة فسأل تأخيره حتى يبيع الأصول هل يعطى حميلاً بالوجه على ما يفتي به أهل طليطلة؟ فأجاب ابن عتاب: يلزمه حميل بالمال كان له أصول أو لم يكن، وبه جرى العمل. قال: ويلزم الحميل ولو كان بيد الطالب رهن حتى ينصفه وهو مذهب الشيوخ، وأفتى ابن مالك إن كان المطلوب معروف العين ظاهر الملاء فلا أرى الحميل بالأمر اللازم. اهـ. وإلى الأول أشار (خ) بقوله: وأجل لبيع عرضه إن أعطى حميلاً بالمال كما مر، وإنما نقلناه لما فيه من زيادة الفائدة وهي أنه يلزمه الضامن بالمال ولو كان بيد الطالب رهن وتأمله مع قوله بعد. سئل سحنون عمن وجب عليه غرم مال؟ فقال: هذا ربعي لم أجد من يشتريه فطلب منه الطالب حميلاً بالوجه فقال: لا حميل عليه إذا بذل من نفسه ذلك ولم يتهم، فإن زعم الطالب أنه يقول للمشتري: لا تشتري فإن الحاكم يشيده ثم يبيعه بالخيار رجاء الزيادة. اهـ. ولكن ما أفتى به ابن مالك وقاله سحنون هو الذي عليه عمل فاس قال ناظمه:
ومن بدين قد أقر بسجن ** إن لم يجئ برهن أو من يضمن

وإذا جعله رهناً وأشاده الحاكم للبيع بعد انقضاء ما أجله إليه فإنه يجري على قول (خ): وعجل بيع الحيوان واستوفى بعقاره كالشهرين إلخ. وقد تقدم أنه إذا انقضى الشهران يباع ولو لم يبلغ القيمة لأنه غاية المقدور، وكذا قال ابن رشد في بيع ربع اليتيم للنفقة عليه. اهـ.
وَالحَبْسِ لِلْمُلِدِّ وَالمُتَّهَمْ ** إلى الأداءِ أَوْ ثُبُوتِ العَدَمْ

(والحبس للملد والمتهم) يستمر (إلى الأداء أو ثبوت العدم.
ولَيْسَ يُنْجِيه مِن اعتقالِ ** إلاَّ حميلٌ غارمٌ للمالِ

(و) إن وعد بقضاء ف (ليس ينجيه من اعتقال. إلا حميل غارم للمال)
هذا هو ظاهر الملاء المتقدم، وظاهره أنه لابد له من حميل بالمال وعد بالقضاء أو سأل التأجيل لثبوت عسره، وهذا قول سحنون. واقتصر عليه في المقدمات وابن سلمون، وتبعهما الناظم. ولكن المشهور التفصيل بين أن يعد بالقضاء فيؤجل بالحميل بالمال اتفاقاً كما قال (خ): وإن وعد بالقضاء وسأل تأخيراً كاليوم أعطى حميلاً بالمال وبين أن يسأل التأجيل لثبوت عسره فبحميل بالوجه عند ابن القاسم وهو الراجح. وقال سحنون بالمال أيضاً. قال ابن سهل: وأما من ظاهره الملاء ولم يعلم ملاؤه ولكن يتهم على إخفاء المال فقال سحنون وغيره: يسجن حتى يتبين أمره. قال سحنون: ولا يؤخذ منه حميل بالوجه ولكن بالمال. قال ابن القاسم: يؤخذ منه الحميل، وفهموه على أنه يريد حميل الوجه، واختلف في قول ابن القاسم وسحنون فقيل خلاف، وقيل وفاق. فيحمل قول سحنون على إنه كان ملداً ظاهر الملاء. وقول ابن القاسم على غيره. اهـ. ونقله في التوضيح ودرج عليه في الشامل فقال: ومن تفالس وظاهره الملاء سجن أيضاً ولو شهدت بينة بفقره إن لم تزك وحيث يقبل منه الحميل فهل بمال أو وجه؟ ورجح قولان وهل القولان على ظاهرهما أو الأول للملد والثاني لغيره؟ خلاف. اهـ. ابن رحال: الراجح فيما يظهر لنا أنه وفاق بدليل اقتصار العبدوسي عليه. اهـ. وقد علمت من هذا أن الراجح قول ابن القاسم وإن كان في المقدمات اقتصر على قول سحنون وتبعه ابن سلمون والناظم وقرره (م) ومن تبعه على ظاهره، وقد علمت أيضاً أن هذا ليس قسماً زائداً على الأقسام المتقدمة، وأن جعلهم المجهول ينقسم إلى متهم وغيره غير سديد إذ لم يقله أحد لأن الملد المتهم غير المجهول إذ لا يحكم عليه باللدد والتهمة حتى يكون ظاهره يخالف دعواه وهو ظاهر الملاء حينئذ والله أعلم. وبالجملة: فالأقسام ثلاثة: مجهول الحال، وظاهر الملاء وعنه عبر ابن رشد بالملد والمتهم، ومعلوم الملاء ويدخل فيه المعسر الذي له عروض كما مر التنبيه عليه، فإن كان ثابت العدم من أول الأمر كانت الأقسام أربعة، ولهذا كان الأولى للناظم حذف الأول من هذين البيتين ويذكر ثانيهما عقب قوله: ولا يؤخر، ويحذف أيضاً قوله: أو معسر لأنه داخل في قوله: ومن على الأموال قد تقعدا إلخ. كما يحذف أيضاً قوله:
وَحَبْسُ مَنْ غَابَ عَلى المَالِ إلى ** أدَائِهِ أَوْ مَوْتِهِ مُعْتَقِلا

(وحبس من غاب على المال) مستمر (إلى أدائه أو موته معتقلا) إذ هو معلوم الملاء. وقد تقدم له حكمه، وبالجملة فقد وقع للناظم رحمه الله في هذه الأبيات الخمسة عشر مع الأبيات الثلاثة بعدها من التداخل والإطناب وعدم الترتيب والإخلال ببعض القيود ما لا يخفى، وقد كنت أصلحتها في هذه الأبيات ونصها:
ومن عليه الدين إما ظاهر ** أو مبهم في حاله أو موسر

فأول يسجن للأداء ** ما لم يكن وعد بالقضاء

فبحميل الوجه جاء ينظر ** عنهم بغير ذاك لا يؤخر

وإن يكن سأل للعدم الاجل ** فبحميل الوجه في القول الأجل

وحيث جاء الثاني بالحميل ** بالوجه ما للسجن من سبيل

وإن يكن عن الحميل عجزه ** فواجب بالسنة اختباره

فالدين إن كان يسير القدر ** فسجنه مقدار نصف شهر

والحبس في توسيطه شهران ** وضعف ذين في الخطير الشان

وثالث بالضرب والسجن حكم ** وعسره الثابت بعد كالعدم

إلا إذا أشهد بالذهاب ** للمال بالحرق والاغتصاب

وإن أتى بضامن فبالأدا ** حتى يؤدي ما عليه قعدا

وكل من سأل تأجيلا لما ** يبيع من عروضه ملتزما

فبحميل المال قد يؤجل ** بقدر دينه يكون الأجل

وقولنا: وكل من سأل إلخ. يشمل معلوم الملاء وظاهره ومجهوله إذ بطلبه التأجيل للبيع علم ملاؤه.
وَغَيْرُ أهْلِ الوَفْرِ مَهْمَا قَصَدا ** تأْخِيرَهُ وَبالقَضَاءِ وَعَد

(وغير أهل الوفر) وهو في اللغة المال الكثير، والمراد به هنا مطلق المال وغير أهله هو ظاهر الملاء ومجهوله (مهما قصدا) أي طلب (تأخيره وبالقضاء وعدا.
مُكِّنَ مِنْ ذَاكَ بِضَامِنِ وإنْ ** لم يأتِ بالضَّامِنِ لِلْمَالِ سُجِنْ

مكن من ذاك بضامن) بالمال (وإن لم يأت بالضامن بالمال سجن) كما مر في قول (خ) وإن وعد بقضاء وسأل تأخيراً كاليومين أعطى حميلاً بالمال وإلا سجن إلخ. وإنما أدخلنا في كلامه المجهول لأنه بوعده بالقضاء انتفى جهله.
وَمَنْ له وَفْرٌ فَلَيْسَ يُضْمَنُ ** فَإنْ قَضَى الْحَقَّ وَإلاَّ يُسْجَنُ

(ومن له وفر) وهو معلوم الملاء المعروف بالناض (فليس يضمن) ولا يؤخر (فإن قضى الحق) الذي عليه بذلك الناض فذاك (وإلا) يقضه (يسجن) (خ): وإن عرف بالناض لم يؤخر وضرب المرة بعد المرة.
وَأَوْجَبَ ابْنُ زَرْبٍ أَنْ يُحَلّفَا ** مَنْ كَانَ باكْتِسَابِ عَيْنٍ عُرفا

(وأوجب) القاضي أبو بكر (ابن زرب أن يحلفا من كان باكتساب عين عرفا) وهم التجار لأن الغالب على أحوالهم حضور الناض، وتقدم عند قوله: أو معسر إلخ. أن هذه اليمين جارية على إيمان التهم والمعروف توجهها من غير فرق بين تجار وغيرهم، وابن زرب توسط في ذلك فأوجبها على التجار دون غيرهم.
ومُحْمِلُ النَّاسِ عَلَى حال المَلاَ ** عَلَى الأَصَحِّ وَبِهِ الحُكْمُ خَلا

(ومحمل الناس على حال الملا) ء فمن ادعى العدم فعليه إثباته (على الأصح) قاله ابن الحاج (وبه الحكم) والعمل (خلا) ومضى. وهذا مما قدم فيه الغالب على الأصل لأن الإنسان يولد ولا شيء له لكن الغالب عليه التكسب وصفة الشهادة بالعدم أن يقولوا: نعرف فلاناً المعرفة التامة ونشهد بأنه فقير عديم لا نعلم له مالاً ظاهراً ولا باطناً، فإن قطع الشهود وقالوا: لا مال له ظاهراً ولا باطناً فقيل: لا تجوز لأنها تحمل على ظاهرها من البت، وقيل تجوز وتحمل على العلم، فإن صرحوا بالبت والقطع لم تجز قولاً واحداً قاله ابن رشد. وقد يغتفر للعوام التصريح بالقطع فيها قياساً على ما قيدوا به قول (خ): أو شهد وحلف.
وَيَشْهَدُ الناسُ بِضْعَفٍ أَوْ عَدَمْ ** وَلا غِنَى فِي الحَالَتيْنِ مِنْ قَسَمْ

(و) يجوز أن (يشهد الناس) للمدين (بضعف) لحاله وقلة ذات يده لضعف صنعته أو تجارته، وصفتها أن يقولوا: يعرف شهوده فلاناً ويعلمونه ضعيف الحال بادي الإقلال قليل ذات اليد مقدوراً عليه في رزقه وحاله متصلة على ذلك إلى الآن في علمهم، فإذا ثبت هذا الرسم أخذ منه القليل الذي في يده ودفع للغرماء بعد أن يحلف أن لا شيء له غيره (أو عدم) أي كما يجوز أن يشهد الناس للمدين بالعدم المحض وأنه لا شيء له في علمهم كما مر قريباً فإن شهدت إحداهما بالضعف أو العدم وشهدت أخرى لرب الحق بالملاء فإن بينة الملاء تقدم على المعمول به بينت أم لا. كما في الأجهوري خلافاً لما في (خ) من أنها لا تقدم إلا إذا بينت أنه أخفى مالاً أو عينت له داراً مثلاً كما يأتي عند قوله: ومن بماله أحاط الدين إلخ. وتقدمت هذه المسألة آخر الشهادات عند الكلام على تعارض البينات فانظرها هناك مع نظائرها.
(ولا غنى في الحالتين) وهما شهادتهم بالضعف وشهادتهم بالعدم (من) أي عن (قسم) من المدين لأنه إنما شهدوا له بظاهر الحال، فلابد من حلفه على الباطن واختلف هل يحلف.
بمَا اقْتَضاه الرَّسْمُ لا اليقينِ ** إذْ لاَ يَصِحُّ بَتُّ ذِي اليَمِينِ

(بما) أي على وفاق ما (اقتضاه الرسم) فيقسم أنه لا يعلم لنفسه مالاً ظاهراً ولا باطناً على طبق ما شهدوا له به في الرسم و(لا) يكلف الحلف على (اليقين) والبت بأن يقول: لا مال لي وهو الذي اعتمده (خ) والناظم وعلله بقوله: (إذ لا يصح بت ذي اليمين) لإمكان إرثه مالاً لم يعلم به أو يحلف على البت والقطع فيقول: لا مال له ظاهراً ولا باطناً وإن وجده ليقضينه وهو المذهب، فإذا حلف أخر المعدم وأخذ من الضعيف ما بيده ودفع للغرماء (خ): وترك له قوته والنفقة الواجبة عليه لظن يسرته، ثم إذا ادعى الطالب عليه بعد هذه اليمين أنه أفاد مالاً لم يحلف المدين لرد هذه الدعوى لأنه قد حلف على ذلك حيث قال: وإن وجده ليقضينه إذ لا فائدة لتلك الزيادة إلا ذاك.
وَمَنْ نُكُولُهُ عن الحَلْفِ بَدَا ** فَإنَّهُ يُسْجَنُ بَعْدُ أَبَدَا

(ومن نكوله عن الحلف بدا فإنه يسجن بعد أبدا) ولا يسرح حتى يؤدي دينه لأن نكوله تهمة.
وَحَيْثُ تَمَّ رَسْمُهُ وَعُدَّمَا ** كانَ عَدِيماً لأولاءِ الغُرَمَا

(وحيث تم رسمه) وحلف معه (وعدما) بتشديد الدال أي حكم الحاكم بعدمه أو ضعفه (كان عديماً لأولاء الغرما) فلا مطالبة لهم عليه ولو طال الزمان.
إلاَّ إذَا اسْتَفَادَ مِنْ بعدِ العَدَمْ ** مالاً فَيَطْلُبُونَهُ بالمُلْتَزَمْ

(إلا أن) يعلم أنه (استفاد من بعد العدم) الثابت بالبينة (مالاً) بإرث أو هبة أو تجارة (ف) إنهم حينئذ (يطلبونه بالملتزم) من الدين الباقي في ذمته ولو داين غيرهم من بعد ثبوت عدمه فقام عليه غير الأولين فلا دخول للأولين معهم إلا فيما يحصل له من الربح، وإذا مضت مدة من العدم الأول فإنه يكلف تجديد عدم للآخرين، وإن عدمه الأول متصل إلى الآن ولا يعلمون أنه استفاد مالاً إلى قيام هؤلاء الآخرين عليه، لأن الآخرين لم يحكم عليهم ولا عذر لهم في شهود العدم الأول فيجب أن يجدد البينة باتصال عدمه ويعذر إليهم فيها قاله في الطرر وابن سلمون. ومفهوم قوله: إلا إن استفاد مالاً أنه إذا لم يعلم أنه استفاد شيئاً فهو على عدمه وإن طال الزمان كما قررنا. قال ابن ناجي: وبه العمل، وفي المعيار وابن سلمون عن ابن الحاج: إنما ينتفع ببينة عدمه إلى ستة أشهر فإن زادت المدة عليها فلابد من استئناف عدم آخر. قال ابن عاشر في طرره: وبقول ابن الحاج رأيت العمل بفاس. اهـ. ونظمه في العمل المطلق.
وَيَنْبَغِي إعْلانُ حَالِ المُعْدَمِ ** في كلِّ مَشْهَدٍ بِأَمْرِ الحَاكِمِ

(و) إذا ثبت العدم بالبينة التي لا مطعن فيها ف (ينبغي إعلان حال المعدم) وإشهار عدمه (في كل مشهد) فيطاف به في المجالس والأسواق (بأمر الحاكم) ليعلم الناس عدمه فلا يغتر به أحد ولا يعامله أحد إلا على بصيرة من أمره قال الشارح: ما ذكره الناظم من إعلان حاله وهو الذي جرى به العمل من قضاة العدل.
والأصل في ذلك فعل عمر رضي الله عنه. اهـ. وهذا الإشهار نظير إشهار من حجر عليه القاضي وقدم عليه (خ): ونادى بمنع معاملة يتيم وسفيه، وفي المعيار عن العبدوسي في امرأة مسنة باعت حظها من دار ثم ثبت حجرها قال: وأما النداء عليها فليس من حق المشتري خاصة بل من حقوق المسلمين كافة ينادى عليها في المحافل مكشوفة الوجه لتعرف هذه فلانة الساكنة بموضع كذا ثبت عند القاضي حجرها فكونوا على حذر من معاملتها إلخ. ويقام كل من المفلس والمحجر عليه من السوق قال في الشامل: ويقام المفلس من السوق على الأصح كسفيه حجر عليه. اهـ. وذكر ابن ناجي أن العمل على عدم إشهار المعدم وعدم إطاقته قال: وكذا العمل أنه لا يقام من السوق ونظمه في العمل المطلق أيضاً، ولكن تقدم في غير ما موضع أن عمل فاس تابع لعمل الأندلس لا لعمل تونس فلا يعول على ما لابن ناجي لما فيه من غرر المسلمين، ولأن الرجل إذا علم إشهاره عند عدمه لم يتجرأ على أخذ الدين وإذا أخذه حمله ذلك على القضاء ولأنه الوارد عن السلف فلا ينبغي للقاضي إهمال هذا الفصل بحال، وإلاَّ فقد تعرض لتضييع حقوق المسلمين وهو واجب عليه حفظها والله أعلم.
وَمُثْبِتٌ لِلضَّعف حالُ دَفْعهِ ** لغُرَمَائِهِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ

(ومثبت) مبتدأ سوغه تعلق (للضعف) به (حال دفعه) مبتدأ ثان (لغرمائه) يتعلق بدفع (بقدر وسعه) خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول، وتقدم أنه يدفع لغرماء ما بيده بعد حلفه وهو مراده بقدر وسعه وطاقته، وكان الأنسب تقديم هذا البيت هناك.
وَطَالِبٌ تَفْتِيشَ دَارِ المُعْسِرِ ** ممتَنِعٌ إسْعَافُهُ في الأَكْثَرِ

(وطالب تفتيش دار) المدين (المعسر) أي مدعي العسر وقبل ثبوته وحلفه نازعه رب الدين وادعى أن له أموالاً وأمتعة بداره وسأل تفتيشها (ممتنع إسعافه) أي فلا يجاب إلى تفتيشها (في) قول (الأكثر) ابن عتاب وابن مالك ومن وافقهما. قال ابن ناجي: وبه العمل ومقابله لفقهاء طليطلة، وقاله ابن شعبان وابن القطان ورجحه ابن رشد. وقال ابن سهل: أنا أراه حسناً فيمن ظاهره اللدد والمطل. اهـ. قال بعض: وهو اللائق بهذا الزمان لكثرة اللدد والمطل.
قلت: وهو الذي يجب اعتماده وعليه فما ألفى في داره من متاع النساء فادعته زوجته فهو لها، وما ألفى فيها من متاع الرجال بيع وقضى منه دينه وهو محمول على أنه له كما يأتي عند قول الناظم: وهو مصدق إذا ما عينا إلخ. من أنه لا يصدق في دعواه أنه عارية أو وديعة حتى يثبت ذلك بل يعين ربها ويشهد لهما الناس بذلك كما قال (خ): وقبل تعيينه القراض والوديعة إن قامت بينة بأصله أي: بأن عنده قراضاً أو وديعة وإن لم تشهد بعينها، ومفهوم دار أنه إذا سأل تفتيش جيبه أو كمه أو كيسه فإنه يجاب إلى ذلك وهو كذلك لأنه أخف من الدار. قال ابن ناجي: وبه حكمت.